لم يتحقق الكثير في العراق خلال السنوات العشر الماضية على طريق بناء مؤسسات الدولة وترميم البنية المهشمة للتمهيد للانتقال الى حالة الاستقرار والتنمية. ولم يسفر إقرار الدستور الذي لا يزال موضع اختلاف وانتقاد من هذا الطرف أو ذاك، ودورات الانتخابات السابقة التي جرت، سوى عن مظاهر تتوالد من التناحر والاختلاف، يجري تجاوزها، غالباً، عبر مساومات وتوافقات هشة.
ومع إجراء الانتخابات البرلمانية الثالثة منذ انهيار النظام السابق والأولى بعد إتمام انسحاب القوات الأمريكية، يتعقد المشهد السياسي العراقي بتفاقم الوضع الأمني وخطورة الموقف غربي العراق الذي تقطنه غالبية سنية، وتصاعد الخلافات بين حكومتي المركز والإقليم.
وبصورة عامة تحمل التجربة العراقية في ممارسة الديمقراطية قدراً كبيرا من علامات الاستفهام مقارنة بالإجابات التي تقدمها للمعضلات التي تواجهها البلاد. فهي تنطوي على تعقيدات متشابكة ومفاهيم ملتبسة من شأنها أن تضعف ليس فقط إدارة الدولة بل تركيبة المجتمع برمته.
لكن هذه الصورة المعتمة للوضع في العراق تخفي تحتها حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي وجود متغيرات مهمة في الوضع السياسي، إذ لم يعد بمقدور أحد أو جهة أو حزب أن يحكم بمفرده، بمعنى أن مرحلة الحزب الواحد والحزب القائد وغير ذلك قد أفلت. وصار من المتعذر السيطرة على مقاليد الأمور عن طريق انقلاب عسكري كما كان عليه الحال منذ تأسيس الدولة الوطنية، أي أن عصر البيان رقم واحد قد ولى. وبدلا عن ذلك أصبحت الممارسة الانتخابية، رغم كل ما يشوبها من نواقص، محور العملية السياسية في البلاد.
من المعروف أن العراقيين، أو توخيا للدقة شرائح واسعة منهم، انتظروا طويلا حدوث معجزة تخرج البلاد من الديكتاتورية والخراب؛ من القمع والحروب، من الحصار والانقسام، ومن تردي أحوال البلاد السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية، وتراجعها في جميع الميادين.
لكن المعجزة المنتظرة أتت عن طريق التدخل الأجنبي بعد أن أخفقت انتفاضة أوائل التسعينيات الواسعة النطاق، التي اندلعت إثر هزيمة حرب الكويت، في إحداث تغيير، بل إنها أدت بسبب تضافر ظروف محلية وإقليمية ودولية إلى استعادة نظام الحكم قبضته العنيفة على كامل البلاد. والاستثناء من ذلك كان إقليم كردستان الذي ظل خارج سيطرة الحكومة المركزية.
وتعين على العراقيين أن ينتظروا معجزة أخرى تخرجهم من دوامة الاحتلال والعنف الذي رافقه وتضع البلاد على طريق التنمية والاستقرار. لكنهم وجدوا أنفسهم خلال العقد الماضي في حالة من الاحتراب والانقسام وعدم الاستقرار وغياب الأمن وانتشار الفساد. فالتدخل الأجنبي وما نتج عنه من إدارة لشؤون البلاد، أسفر عن تدمير للمؤسسات والبنى التحتية ، الأمر الذي وضع البلاد ومستقبلها في نفق مظلم طويل.
واتجهت آمال الكثير من العراقيين وغيرهم نحو معجزة الديمقراطية بعد الوعود التي أطلقت لاعتماد مبدأ الشراكة في إدارة البلاد عن طريق انتخابات حرة، إلا أن العام الذي سبق تسليم السلطة الى حكومة عراقية مؤقتة في حزيران/ يونيو 2004 كرس وضعاً أصبح من العسير تجاوزه، وهو اعتماد مبدأ المحاصصة .
وتعني هذه الوصفة تقسيم المجتمع العراقي وفق منظور سلطة الاحتلال وجهات عراقية وغير عراقية الى ثلاثة مكونات رئيسية، لكن غير متناسقة، مع الاخذ في نظر الاعتبار مكونات صغيرة أخرى. واعتبر المجتمع العراقي منذ ذلك الحين مكوناً رسميا من ثلاثة عناصر الشيعة والسنة والأكراد وأقليات أخرى، رغم التداخل بين هذه الأجزاء. فهناك سنة من العرب والأكراد والتركمان وهناك أكراد سنة وشيعة وهناك شيعة من العرب الأكراد والتركمان، وغير ذلك من التعقيد والتشابك الإثني والديني والطائفي.
وما نتج عن هذا التقسيم في الواقع تكريس تشظي المجتمع الى أجزاء، و إحلال الانتماء الطائفي والإثني والعشائري محل عنصر المواطنة، مما أضعف بنية المجتمع المدني وعرضها للخطر. لكن لا بد من القول إن سهولة تكريس هذا التوزيع تعني أن المجتمع كان قد أهل على مدى عقود سابقة من الحكم الديكتاتوري لتقبل مثل هذا الواقع.
وعندما جرت أول انتخابات برلمانية في كانون الثاني/ يناير 2005، وشهدت إقبالا كبيرا من الناخبين ما عدا بعض المناطق السنية غربي العراق، انتعشت بعض الآمال في بدء طريق الديمقراطية والتنافس الحر.
لكن الاقتراع ونتائجه والتحالفات التي أسفرت عنه لتشكيل مؤسسات إدارة البلاد كرست واقع المحاصصة الثلاثية: شيعة – سنة – أكراد. وأصبح توزيع الأدوار ثلاثيا : الرئاسة للأكراد، رئاسة الوزراء للعرب الشيعة، رئاسة البرلمان للعرب السنة.
وأثبتت انتخابات عام 2010 تعقد العملية السياسية وارتباطها الوثيق بمبدأ التوزيع الثلاثي واستبعاد المنافسة على اساس القوى والتيارات السياسية. ففي حين فازت القائمة العراقية التي يرأسها رئيس الوزراء السابق اياد علاوي، وتضم الأطراف السنية الرئيسية، على قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي، ائتلاف دولة القانون، بفارق ضئيل. لكن الفرصة أعطيت للأخير لتشكيل الحكومة الأمر الذي استغرق تسعة أشهر.
وقد نجح المالكي بذلك من خلال تشكيل تحالف مع القوى الشيعية الأخرى مما ضمن رئاسة الوزراء ليس لشخص شيعي بل للطائفة الشيعية. وظلت رئاسة البرلمان بيد السنة ورئاسة الجمهورية للأكراد ممثلين في الزعيم الكردي، جلال الطالباني، الذي اختفى عن الأنظار بسبب مرضه وتلقيه العلاج في الخارج.
وبذلك تحول مفهوم الديمقراطية من عملية سمتها التنافس السياسي الى الركون للتنافس الطائفي والقومي. ووفقا لذلك صارت القوى المتنفذة في الحكم تعبر عن هذه الطائفة أو تلك القومية. وهذا أنتج نوعا غريبا من إدارة الحكم أصبح فيه المسؤول مهما بلغت درجته يمثل الطائفة أو الإثنية ويعبر عنها، بدلا من أن يكون مسؤولا عن الجميع.
ونتيجة لذلك، توفرت الظروف لاستشراء الفساد الإداري والمالي، وغياب اعتماد مبدأ الكفاءة في إدارة المؤسسات، في غالب الأحوال، مما أضعف، وغيب في بعض الأحيان، دور الإدارات في تقديم الخدمات الضرورية للمواطن.
لكن ما يضيف تعقيدا للحالة العراقية تقاطع مصالح الأطراف الإقليمية والدولية وحساباتها الاستراتيجية وانعكاس ذلك على الخريطة السياسية. وأصبح لهذه الأطراف تأثير واضح، مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة وإيران، أو مداورة، في حالة تركيا والسعودية وغيرهما، على اتجاه الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية.
ولا تختلف ظروف الانتخابات الحالية 2014 عن سابقاتها في شيء في ما يتعلق بمصالح تلك الأطراف. لكنها تأتي في ظل ظروف اكثر تعقيدا، مع استمرار توتر الوضع في غرب العراق (السني) الذي يشكو من التهميش. ويضاف الى ذلك العامل السوري الذي ساهم في اشتداد عضد التنظيمات المسلحة المتشددة لما يتوفر لها من عمق استراتيجي على الجانبين. وقد نتج عن ذلك تصاعد في الهجمات الانتحارية في العاصمة بغداد ومدن أخرى قريبة منها.
وما يزيد الأمور تعقيدا الخلافات المتزايدة بين الحكومة المركزية في بغداد والإقليمية في أربيل، وانعكاس ذلك في مفردات مهمة كالموازنة والاستثمار في المجال النفطي والنزوع المتزايد لانفصال إقليم كردستان، الأمر الذي أوحت به تصريحات بعض قادة الإقليم.
والخلاصة أنه ليس هناك من يتوقع معجزة تأتي بها الانتخابات الحالية التي يرى كثيرون أنها لن تسفر عن فوز حاسم لأي طرف واحد تؤهله لقيادة الحكومة، رغم أن رئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، يسعى الى فوز ائتلاف دولة القانون الذي يقوده، والبقاء في الحكم لولاية ثالثة، الأمر الذي ترفضه الأطراف الأخرى، كردية وسنية ومن التحالف الشيعي الذي ضمن له رئاسة الوزراء. وأياً كان ما تسفر عنه انتخابات 2014 من نتائج فإن مهمة تشكيل حكومة لقيادة المرحلة المقبلة لن تكون مهمة يسيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق